المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
فقد كان مبدأ هذه الرسالة مقالات نشرتها في جريدة الوطن الكويتية في غضون عام 1399هـ، وقد وفقنا الله بحمده فأخرجنا هذه المقالات وطبعت رسالة مستقلة في عام 1400هـ، ثم طبعت مع رسالة الحد الفاصل بين الإيمان والكفر عدة مرات منذ عام 1401هـ، سائلاً الله تبارك وتعالى أن ينفع بها وأن يثيب عبده الضعيف العاجز عليها إنه هو السميع العليم والحمد لله رب العالمين،،
كتبه أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الخالق
بالكويت المحرم 1407هـ
الموافق سبتمبر 1986م
الفصل الأول: الولاء أو الولاية
التعريف اللغوي:
الولاية بفتح الواو وكسرها تعني النصرة: يقال: هم على ولاية: أي مجتمعون في النصرة (لسان العرب).
والولي والمولى واحد في كلام العرب، ووليك هو من كان بينك وبينه سبب يجعله يواليك وتواليه أي تحبه وتؤيده وتنصره ويفعل هذا أيضاً معك، والله ولي المؤمنين ومولاهم بهذا المعنى أي محبهم وناصرهم ومؤيدهم كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة:257)، وقال أيضاً: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} (محمد:11) وولي المرأة هو متولي شئونها كالأب والأخ الأكبر ونحو ذلك، وفي لسان العرب: قال أبو الهيثم: "المولى على ستة أوجه: المولى ابن العم والعم والأخ والابن والعصبات كلهم، والمولى الناصر، والمولى الولي الذي يلي عليك أمرك، قال: ورجل ولاء وقوم ولاء في معنى ولي وأولياء لأن الولاء مصدر، والمولى مولى الموالاة وهو الذي يُسلم (أي يدخل الإسلام) على يديك ويواليك المولى مولى النعمة وهو المعتق أنعم على عبده بعتقه، والمولى المعتق (بالبناء للمجهول) لأنه ينزل منزلة ابن العم يجب عليك أن تنصره وترثه إن مات، ولا وارث له فهذه ستة أوجه" أ.هـ.
المعنى الشرعي:
وهذه المعاني اللغوية الآنفة كلها ثابتة في حق المسلم للمسلم إلا ما استثناه النص من ذلك كالميراث مثلاً كما قال تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين} (الأحزاب:6) أي أولى ببعضهم في الميراث من ولاية المؤمنين الآخرين والتي كانت ولاية الميراث ثابتة لهم في أول عهد الرسول بالمدينة وذلك لفترة محدودة ثم نسخت. ونستطيع أن نقول أن الولاية الثابتة من كل مسلم لأخيه المسلم تشمل ما يلي: الحب، والنصرة، والتعاطف والتراحم والتكافل والتعاون، وكف كل أنواع الأذى والشر عنه، وبعض هذه الأمور الإيجابية يدخل في باب الفرائض والواجبات وبعضها يدخل في باب المستحب والمندوبات.
وأما الأمور السلبية وأعين بها كف الأذى فإن بعضها يدخل في باب الكفر والخروج من الدين وبعضها معصية وبعضها يدخل في إطار المكروهات والتنزيهات، وسنبين كل ذلك بحول الله وتوفيقه بالنصوص من كتاب الله وسنة رسوله.
(أ) الأدلة على وجوب موالاة المسلم لأخيه المسلم:
الأدلة في هذا الباب أكثر من أن تحصر ونحن نذكر هنا بعضها، فمن الأدلة القرآنية قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات:10) وهذه الآية قد جاءت بصيغة الحصر أي ليس المؤمنون إلا أخوة، ومفهوم هذا أنه إذا انتهت الأخوة انتهى الإيمان، وكذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} (الأنفال:72) وهذا تأكيد من الله جاء بصفة الخبر وكأنه أمر مستقر مفروغ منه، والمقصود بالأمر بأن يوالي المهاجرون الأنصار بعضهم بعضا، ثم قال بعد عدة آيات: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} (الأنفال:75) فأشار إلى أن من يأتي بعد الرعيل الأول ويهاجر معهم فهم منهم أي قطعة وبضعة منهم، وهذه المعاني نفسها أكدها الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر، ففي ذكر تقسيم الفيء حق لثلاثة أصناف هم فقراء المهاجرين، وفقراء الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان قبل المهاجرين ثم فقراء التابعين إلى يوم القيامة ووصف الله التابعين بصفة لازمة لاستحقاقهم الفيء وصحة انتسابهم إلى هذه الأمة فقال: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر:10) فوصفهم بأنهم يدعون لمن سبق من هذه الأمة بالخير ويطلبون من الله أن لا يكون في قلوبهم أدنى غل للمؤمنين، ولهذا استنبط الإمام الشافعي في هذه الآية أن الرافضة لا حظ لهم في أخماس الفيء وذلك لسبهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وامتلاء قلوبهم بالحقد والغل لهم.
ومن الآيات الدالة على معنى الولاء أيضاً قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} (التوبة:71) وفي هذه الآية تقرير لولاية المؤمنين والمؤمنات واتصافهم بما وصفهم الله به من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.. الخ.
والسنة مليئة بمثل هذه المعاني كقوله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم] (الشيخان وأبو داود والترمذي) وقال أيضاً: [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً] (مسلم وغيره) وقال: [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجيد بالسهر والحمى] (متفق عليه) وقال أيضاً كما روى مسلم: [المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله] (مسلم والترمذي وأحمد).
وهذه الأحاديث مقررة للمعاني السابقة التي جاءت به الآيات.
أولاً: الحقوق اللازمة من كل مسلم لأخيه المسلم:
(1) الحب:
يدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه] (الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم). وهذه أدنى درجات المحبة والمقصود أن كل مسلم يجب عليه أن يحب لأخيه من خير الدنيا والآخرة ما يحبه هو لنفسه ولا يمكن أن يحصل هذا إلا بأن تحب الشخص لأنك لا تحب الخير لمن تكره.
ولا يتصور أن تحب الخير إلا لمن تحب، وهذا الواجب قد تناساه وأهمله اكثر المسلمين في زماننا بل لا نكاد نجد إلا قليلاً ممن يحبون إخوانهم المسلمين حباً دينياً حقيقياً مجرداُ عن الهوى والمصلحة والعصبية، وبالرغم من أن هذه المنزلة -أعني محبة المسلم لأخيه المسلم- من لوازم الموالاة فإنه أيضاً باب عظيم من أبواب الخير في الآخرة والشعور بحلاوة الإيمان في الدنيا كما جاء في الصحيحين في شأن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: [رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه] (متفق عليه) وكذلك جاء في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: [ثلاث من وجدهن وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار] (البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم).
وقد يظن ظان أن المحبة عمل قلبي ولا يستطيع الإنسان التحكم فيه فكيف يرغم على محبة المسلمين؟! والجواب أن هذا خطأ لأن القلب تابع للعقيدة والإيمان فمن آمن بالله وأحبه فلابد أن يحب من يحب الله، والمسلم مفروض فيه أن يحب الله ويطيعه ولذلك وجب علينا محبة المسلم لمحبتنا الله ولدينه، بل لا يمكن أن يتصور إيمان أصلاً دون أن يحب المسلمون بعضهم بعضاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم] (مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة).
وهكذا نعلم أنه لا إيمان قبل المحبة، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سبيلها وهي إفشاء السلام لأنه أدنى معروف من الممكن أن يبذله المسلم لأخيه المسلم وهو لا يكلف أكثر من كلمة طيبة تتضمن دعاء وطلباً من الله بالسلامة والعافية من كل شر والرحمة لمن تسلم عليه. ولا شك أن الدعاء والتمني على هذا النحو يرقق القلب ويشعر بمحبة المسلم لأخيه المسلم، فأين المسلمون اليوم من تطبيق هذه الجزئية في هذا الأصل الشرعي "الموالاة"؟
(2) المجاملة:
وهي تضم حقوقاً خمسة واجبة جمعها النبي في حديث واحد كما قال صلى الله عليه وسلم: [حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وتشميت العاطس، واتباع الجنازة، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة] (متفق عليه)، ومعنى تشميت العاطس أن تقول له إذا سمعته يحمد الله بعد عطاسه: "يرحمك الله" فيرد عليك "يهديكم الله ويصلح بالكم"، وأما إجابة الدعوة فالمقصود إجابة دعوة الطعام حتى وإن كره الإنسان الحضور لقوله صلى الله عليه وسلم: [ومن لم يحب الداعي فقد عصا أبا القاسم] (مسلم وأبو داود وابن ماجة)، وفي البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ولو دعيت إلى كراع لأجبت] والكراع هو رجل الماشية، وهذه الحقوق الخمسة الآنفة من باب المجاملات اللازمة الواجبة من كل مسلم على أخيه المسلم.
(3) النصرة:
وهي تعني أن يقف المسلم في صف إخوانه المسلمين فيكون معهم يداً واحدة على أعدائهم ولا يخلي بتاتاً -ما استطاع إلى ذلك سبيلاً- بين مسلم وعدوه ويدل لهذا المعنى آيات وأحاديث كثيرة منها قوله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً} (النساء:75) وقد جعل الله هنا القتال في سبيل تخليص المسلمين المستضعفين قتالاً في سبيله ونصراً له سبحانه وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً] (الشيخان والترمذي وأحمد)، وقد فسر صلى الله عليه وسلم نصر الأخ ظالماً بأن ترده عن الظلم وأما نصره مظلوماً فمعناه رد الظلم عنه، ومثل هذا المعنى أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه] (البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم) ومعنى أن يسلمه أي يخلي بينه وبين أعدائه.
ولما كان هذا الحق يتعلق بعلاقات المسلمين والكفار قوةً وضعفاً وفي وقت عهد وهدنة وفي غير ذلك، وفي دار الإسلام ودار الكفر أقول لما كان الأمر كذلك كان للنصرة قواعد وأحكاماً كثيرة ملخصها أنه يجب أن ننصر إخواننا المسلمين المستضعفين فلا يجب عليهم ذلك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على آل ياسر وهو يعذبون فلا يملك إلا أن يقول لهم [صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة] (سيرة ابن هشام 1/319-320)، ولم يستطع أن يرد عن أحد المستضعفين شيئاً طيلة مكوثه صلى الله عليه وسلم بمكة، ولكن بعد أن عزه الله بسيوف الأنصار استطاع أن يمد يد العون للمستضعفين بمكة فكان يرسل إليهم من ينقذهم ويساعدهم على الفرار إلى المدينة، ولكن الله سبحانه وتعالى نهانا أن نساعد المستضعفين من المؤمنين بديار الكفار إذا كان بيننا وبين قومهم عهد كما كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية حيث امتنع عن مساعدة المستضعفين في مكة بعد هذا الصلح ولذلك اضطروا إلى الفرار إلى ساحل البحر كما قال تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} (الأنفال:72) وهكذا نعلم أن هذا النص [ولا يسلمه] الوارد في الحديث وكذلك قوله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان} (النساء:75) مخصصين بالاستطاعة، وبأن لا يكون المسلمين قد ارتبطوا بعهد وميثاق مع قوم من الكفار فلا يجوز خيانتهم في هذا.
وهذه الحقوق السالفة "الحب والمجاملة والنصرة" هي حقوق عامة من كل مسلم لأخيه المسلم في الشرق أو الغرب لا تمييز فيها بين مسلم وآخر ولكن ثمة حقوق أخرى لبعض المسلمين يوجبها ويلزمها المناسبة والموقع ومن ذلك:
ثانياً: الحقوق الخاصة:
(1) حق النبي صلى الله عليه وسلم:
وهو هادي هذه الأمة وقائدها ورسولها صلى الله عليه وسلم وإليه المرجع في التبليغ والإتباع، وحق كل مسلم في هذه الأمة أن يحبه أكثر من نفسه وماله ووالده وولده، وأن يجعل طاعته كلها له وذلك بعد الله سبحانه وتعالى وأن يذب عنه وعن دينه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد جاءت في هذا آيات وأحاديث كثيرة منها قوله تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً} (الفتح:8-9) فجمع الله حقه وحق رسوله في آية واحدة فحق الرسول التعزيز والتوقير والإيمان به وتسبيحه بكرة وأصيلاً، وجعل الله إيذاء الرسول موجباً للعن مهما صغر مادام أن صاحبه يقصد كما قال تعالى {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً} ( الأحزاب:57) فجمع سبحانه بين نفسه وبين رسوله أيضاً في آية واحدة ليبين أن الأذى الواقع على رسوله يقع على الله أيضاً.
وجعل إساءة الأدب ولو دون قصد بحضرة الرسول محبطة كما قال تعالي: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} (الحجرات:2) فقوله تعالى: {وأنتم لا تشعرون} دليل على أن من لم يقصد هذه الإساءة يحبط عمله، وأما من رفع صوته على النبي وبحضرته يقصد الإساءة إليه فلا شك أنه كافر ملعون كما مر في آية الأحزاب الآنفة، فكيف بعد ذلك الذين يتهمون الرسول بشتى التهم ويعادون سنته ويستهزئون بهديه ومع ذلك يزعمون أنهم من المسلمين؟
(2) حق الربانيين والعلماء:
ويأتي بعد حق الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق الربانيين من أهل العلم والفضل والذين وفقهم الله لتعليم الناس وتربيتهم وتوجيههم والأخذ بأيديهم إلى الهدى والنور، وهؤلاء حقوقهم في المحبة والطاعة والموالاة والنصرة ورد الجميل بعد حقوق النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إذ هم السبب المباشر في الهداية والإرشاد وشكرهم واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يشكر الله من لا يشكر الناس] (أبو داود والترمذي وأحمد) ولاشك أن أعظم الناس معروفاً من هداك الله على يديه وأرشدك به ولو إلى قليل من الخير، فكيف إذا كنت ضالاً فهداك الله بواسطته، وكافراً فأسلمت على يديه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [من صنع لكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تظنوا أنكم قد كافأتموه] (أبو داود والنسائي وأحمد) ومعلوم أن مكافأة من هداك إلى الدين مستحيلة لأن الخير الذي ساقه الله لك على يديه لا تستطيع أن ترد مثله إليه فقد هداك الرباني إلى الجنة بتوفيق الله وإعانته فهل تستطيع أن تكافئه بمثل الجنة؟ لا، إلا أن تدعو له بأن يحقق الله له من الخير مثل ما أسدى إليك.
وقد جمع الله ولاية نفسه والرسول والمؤمنين في آية واحدة كما قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (المائدة:55) أي هؤلاء هم من يجب علينا أن نوالهم الله ورسوله والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو متصفون بالركوع الدائم كما وصف الله ورسوله معه بقوله {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً} (الفتح:29).
(3) حق الوالدين والأرحام:
ثم يأتي بعد حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق المربي والمعلم للخير حق الوالدين والأرحام، وأولى الوالدين الأم ثم الأب كما جاء في الصحيحين "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: [أمك] قال: ثم من؟ قال: [أمك] قال: ثم من؟ قال: [أمك] قال: ثم من؟ قال: [أبوك]" (متفق عليه)، وقد أمر الله بالبر بهما في آيات كثيرة من كتابه كما قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهم أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً *واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} (الإسراء:23-24)، والبر بالوالدين يستمر ويجب حتى مع كفرهما ودعوتهما ابنهما إلى الكفر والشرك والمقصود بالبر هنا المصاحبة بالمعروف كالقول اللين وعدم التعنيف وعدم التأفف وعدم الزجر والإحسان إليهما بالمال والإعانة والخدمة كل ذلك حاشا الطاعة في الكفر والشرك كما قال تعالى في سورة لقمان {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير *وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إلي مرجعكم فأنبؤكم بما كنتم تعملون} (لقمان:14-15).
ويأتي بعد الوالدين الأرحام الأقرب فالأقرب كالأخوة والأخوات والأبناء وأبناء الأبناء وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، وهكذا وكل هؤلاء يجب وصلهم حتى لو قطعوا، وقد هدد الله من يقطع أرحامه بالقطع والدخول في النار بل جعل الله قطع الأرحام من الفساد في الأرض كما قال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم *أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} (محمد:22) وقال صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الجنة قاطع] (الشيخان وأبو داود والترمذي وأحمد) وقال أيضاً: [يقول الله تعالى: "أنا الرحمن خلقت الرحم ووضعت لها إسماً من إسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته"] (أحمد وغيره) وصلة الأرحام واجبة أيضاً مع كفرهم ما داموا غير محاربين لله كما سيأتي تعريف ذلك في باب البراءة، أما إذا كانوا مسالمين غير محاربين للمسلمين فيستحب برهم والإحسان إليهم ولو كانوا كفاراً والنصوص السالفة عامة في كل الأرحام وقد بينا كيف نص الله على الوالدين بالبر والإحسان مع الكفر وهما من جملة الأرحام وكذلك نص على وجوب الإحسان إلى الأقارب مع الكفر كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} (البقرة:272) وقد نزلت هذه الآية في بعض الأنصار كان لهم أقارب كفار يحسنون إليهم رجاء إسلامهم، فلما استبطئوا ذلك قطعوا عنهم النفقة، فأنزل الله الآية، والعجيب بعد كل هذه النصوص المحكمة الواضحة أن نجد مسلمين يتشدقون باسم الإسلام ويقطعون أرحامهم بدعوى أنهم على بعض المعاصي، وسيأتي أن موالاة المسلم واجبة مع فعله للمعصية فكيف بالأرحام والأقارب.
(4) حق الجوار والصحبة والشراكة والضيافة:
ويأتي بعد حقوق الأرحام حقوق الجوار والصحبة والشراكة والضيافة وكل ذلك ثابت أيضاً في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة كما قال تعالى: {واعبدوا لله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً} (النساء:36)، وقال صلى الله عليه وسلم [ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه] (متفق عليه)، وأما الضيف فقد جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره.. الحديث] (البخاري وأحمد وأبو داود وابن ماجة) وقال أيضاً: [والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن] قالوا: من يا رسول الله؟ قال: [من لا يؤمن جاره بوائقه] (البخاري ومسلم وأحمد).
(5) حق الفقير والمسكين وابن السبيل والسائل:
ثم يأتي بعد ذلك حق الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والسائلين، وقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة توصي بهم وتجعل لهم نصيباً في الزكاة وأموال المسلمين العامة بل ويجعل لهم حقوقاُ في مال المسلمين غير الزكاة وهي أشبه من المعلوم بالدين ضرورة ولذلك فلا داعي لسرد النصوص في ذلك.
ثالثاً: نواقض الموالاة:
عرفنا فيما مضى هذا الأصل من أصول الموالاة وعرفنا معناه الشرعي واللغوي، ولمن يجب ومراتب المؤمنين ومنازلهم بحسب الموالاة، والآن نأتي إلى نواقض هذا الأصل، ونستطيع تلخيصها فيما يلي:
(1) إخراج المسلم من الإسلام عن معرفة وبصيرة:
كل من حكم على رجل مسلم بأنه كافر وهو يعلم في قرارة نفسه أنه مسلم فقد كفر، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما] (متفق عليه)، أي إما أن يكون كافراً في الحقيقة وهذا الوصف ينطبق عليه، وإما عاد القول إلى قائله، كما قال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه يا كافر وليس كما قال إلا حار عليه] (مسلم) أي رجع الوصف عليه، وأما تكفير المسلم خطئاً وظناً فهو معصية وليس بكفر، كمن ظن أن مسلماً فعل مكفراً وليس بمكفر فكفره لذلك ظاناً أنه قد كفر بذلك، فهذا مرتكب للمعصية وخاصة إذا اقترن هذا مع الجهل والتهجم على الفتيا، وعدم التروي دون استفراغ الوسع في معرفة متى يكفر المسلم ومتى لا يكفر، وأما من كفر مسلماً وهو يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يكفر بما رآه عليه أو سمع عنه فقد كفر قطعاً، لأنه يكون قد كفر مسلماً عن علم وبصيرة.
(2) من استحل دم المسلم أو عرضه أو ماله:
وذلك أن عرض المسلم ودمه وماله حرام كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا] (متفق عليه) ومعلوم أن استحلال المعصية كفر، ومعنى الاستحلال أي الظن والاعتقاد فيما حرمه الله أنه حلال، ومعلوم أيضاً أن حرمة دم المسلم وعرضه وماله وانتهاك هذا أشد عند الله من انتهاك حرمة الزنا والخمر والربا كما قال صلى الله عليه وسلم: [الربا إحدى وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم] (ابن ماجة) أي أعظم من الربا.
وقد حكم الله على من استحل الربا بالكفر والخلود في النار، كما قال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:275) فقوله تعالى: {أصحاب النار هم فيها خالدون} دليل على كفرهم وقولهم {إنما البيع مثل الربا} أي أنهم استحلوا هذا ورأوا أنه لا فرق بين البيع والربا، ومن المعلوم في الدين ضرورة أن مستحل المعصية كافر، وهذا يعني أن مستحل دم المسلم وعرضه وماله فهو كافر.
(3) موالاة الكافر وإعانته على المسلم:
كل من والى كافراً وأعانه وظاهره على مسلم فقد كفر ونقض هذا الأصل "الموالاة" وخرج من دين الله سبحانه وتعالى وهذا يصدق أيضاً على من اطلع الكفار على عورات المسلمين في الحرب وأفشى لهم أسرار المسلمين وقد جاء بشأن هذا آيات كثيرة منها قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (المائدة:51) فقوله تعالى: {فإنه منهم} يدل على أنه قد خرج بذلك من الإيمان إلى الكفر وهو نص صريح، ويخرج من هذا أيضاً من فعل هذا غير مستحل له، في حال ضعف أو خوف أو رغبة كما قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منه تقاة ويحذركم الله نفسه} الآية (آل عمران:28) فقوله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} يدل على أن اتقى شر الكفار وداراهم وردهم عن نفسه في حال ضعف ولا يحب أن ينتصر الكفار ولا أن يظهروا على المسلمين فإنه لا يكفر بذلك بل يكون معذوراً عند الله، والله أعلم بالقلوب، ولذلك عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن حاطب بن أبي بلتعة الذي أفشى سر المسلمين وأخبر قريشاً بأن الرسول قد جمع لهم يريد حربهم وذلك قبل غزوة الفتح، وذلك عندما علم منه الرسول أنه فعل ذلك في حال ضعف وخوف على أولاده بمكة وبما كان لحاطب رضي الله عنه من سابقة في حضوره غزوة بدر مع المسلمين.
وأما من استحل ورضى بمعاونة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين وهو غني عن ذلك فهو كافر قطعاً ناقض لأصل الموالاة وسيأتي لهذا مزيد إيضاح إن شاء الله عند بيان الأصل الثاني وهو "البراء".
هذه الأمور الثلاثة التي تنقض أصل الموالاة وتخرج المسلم من حظيرة الإسلام إلى حظيرة الكفر وهي كما أسلفنا: تكفير المسلم عن عمد وإصرار ومعرفة، واستحلال دمه أو ماله أو عرضه، وموالاة أعداء الله عليه، واستحلال العرض يدخل فيها استحلال سبه أو شتمه أو غيبته.
رابعاً: قوادح الموالاة:
الأمور السالفة تنقض اصل الموالاة وتخرج المسلم من الإيمان ولكن ثمة أمور أخرى لا تصل إلى هذا الحد ولكنها تقدح هذا الأصل وهي كثيرة جداً سنكتفي ببعضها:
(1) الظلم:
ولا يجوز ظلم المسلم بأي نوع من أنواع الظلم لقوله تعالى في الحديث القدسي: [ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً.. فلا تظالموا] (مسلم وأحمد)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه] (البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم)، وقد جاء في الزجر عن الظلم أحاديث كثيرة منه قوله صلى الله عليه وسلم: [من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب له الله النار]، قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: [وإن كان عوداً من أراك] (ابن ماجه وأحمد والدارمي) وهذا بالطبع ما لم يغفر الله له.
(2) السب والشتم والغيبة والنميمة:
من سب مسلماً فقد فسق لقوله صلى الله عليه وسلم: [سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر] (متفق عليه) ومن لعن مسلماً فكأنما قتله لقوله صلى الله عليه وسلم [لعن المسلم كقتله] وقد اشتملت سورة الحجرات على آيات كثيرة محذرة من هذا:منها قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (الحجرات:11) والمعنى أن من فعل ذلك كان فاسقاً بعد أن كان مؤمناً، كما أطلق الله وصف الفسق أيضاً على من سب المحصنة المؤمنة فقال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} (النور:4) فسمي الذين يفعلون ذلك فساقاً، وأما الغيبة فقد جاء فيها قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} (الحجرات:12) أي لمن تاب من هذه الآثام وقد سبق في الحديث ان الغيبة أشد من الربا والربا اشد من الزنا بالأم.
ولا يجوز لمسلم أن يستحل سب المسلم أو شتمه أو عيبه أو غيبته إلا في حق كأن يكون مظلوماً يرد عن نفسه كما قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} (النساء:148) أي من اعتدى عليه أولاً فله الحق أن ينتصر من ظالمه بأن يسبه كما سبه، أو يذكر ظلمه للناس ولكنه لا يجوز له أن يعتدي بأكثر مما سب وعيب به، لقوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة:190) وكقوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل *إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} (الشورى:41-42) ولا شك أن الصفح والمغفرة لأعظم وآجر عند الله لقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى:43).
وفي النميمة يقول صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الحنة القتات] (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد) والقتات هو النمام الذي ينقل الحديث ليوقع بين الناس والذي يسمع إنساناً أو يغيبه فيوصل كلام المسبوب له بغية الوقيعة حتى لو كان صادقاً فيما نقل، ولاشك أن تشريع الله لكل هذه الأمور إنما هو للحفاظ على وحدة الجماعة الإسلامية وتنقية صفوفها من الفرقة والخلاف.
(3) البيع على البيع والخطبة على الخطبة والنجش والغش:
حذر الرسول أيضاً من أمور في المعاملات من شأنها إيقاع العداوة بين المسلمين وخدش أخوتهم وقدح اصل الموالاة من ذلك البيع على البيع والخطبة على الخطبة كما قال صلى الله عليه وسلم: [ولا يبع بعضكم على بيع أخيه] (البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم) وقال: [لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه] (البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم) وقال أيضاً: [ولا تناجشوا] (البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وغيرهم) والنجش هو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراءها بغية إغلاء سعرها على مسلم وهذا ما يحدث في "المزاد العلني" حيث يعمد البائع إلى الاتفاق مع من يزيدون في السعر حتى يوهم المشتري بحسن السلعة ويشتريها بعد غلو ثمنها.
وأما الغش فقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من غش فليس منا] (مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم)، وهذا زجر شديد لمن غش المسلمين في بيع أو نحوه.
(4) الهجران:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهجر المسلم كلام أخيه المسلم أكثر من ثلاث ليال كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام] (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم) وهذا نص عام في كل هجران بأي سبب من أسباب الدنيا.
هذه أهم الأمور التي تخدش الأخوة الإسلامية وتقدح أصل الموالاة ولكن المسلم لا يخرج بها عن الدين إلا إذا استحل شيئاً منها وهناك أمور كثيرة غيرها كالهمز واللمز والهزء والسخرية.
ونحو ذلك مما يسبب العداوة والبغضاء بين المسلمين.
خامساً: المخالفون لأصل الموالاة:
يخالف لأصل الموالاة طوائف من الناس إليك بيان أحوالهم حتى تحذر منهم وتبعد عن سبيلهم:
(1) المنافقون:
وهم أعدى الناس لأصل الموالاة والخارجون عنه وذلك لكفرهم الباطن وامتلاء قلوبهم بالحقد والغل على المسلمين، ورغبتهم الدائمة في اندحارهم وكشر شوكتهم وهؤلاء هم الذين يستهزئون بالمسلمين ويلمزونهم ويسخرون منهم ويفجرون في خصومتهم معهم، ويخلفون وعدهم وينقضون عهدهم مع المسلمين، ويخونوهم ويغشوهم ويكذبون عليهم، ويصابون بالنكد والحسرة وضيق الصدر إذا أصاب المسلمين خير من الله وبركة، ويفرحون ويهللون إذا أصابهم شر ومكروه، والقرآن مليء بوصف أحوال المنافقين وبيان فضائحهم وخاصة سورة التوبة والمنافقون والحشر والأحزاب وأوائل البقرة ودراستنا لهذه السور يطلعنا على حقيقة النفاق الذي يستتر أصحابه بأعمال الإسلام الظاهرة ولكن قلوبهم تكون مع أعداء الله ويسعون جاهدين في تفتيت وحدة المسلمين وبعثرة جهودهم وإطلاع أعداء الله على عوراتهم، وهؤلاء المنافقون هم أخطر على المسلمين من أعدائهم الظاهرين وخاصة إذا كانوا أهل علم بالدين ولسان فصيح كما قال صلى الله عليه وسلم: [أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان] (رواه أحمد) فهؤلاء باستطاعتهم تحريف الكلم عن مواقعه وإيقاع الفتنة في صفوف المسلمين، وقد يكون في المسلمين من يسمع للمنافقين ويعجب بحديثهم كما قال تعالى: {وفيكم سماعون لهم} (التوبة:47) وذلك من حلاوة حديثهم وطلاوته كما قال تعالى أيضاً: {وإن يقولوا تسمع لقولهم} (المنافقون:4).
وخطورة المنافقين أيضاً أنهم يغلفون أنفسهم بالكذب ويغلظون الإيمان ويلينون كالحرير والمرمر فلا يستطيع أحد أن يكشف أمرهم كما قال تعالى لرسوله {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} (التوبة:101) ومعنى مردوا أي كانوا ناعمين لينين وذلك من رقة حديثهم وحلاوة منطقهم وحلفهم وإشهاد الله على ما في قلوبهم حتى أن الرسول نفسه يخفى عليه أمرهم.
والمنافقون في المجتمع الإسلامي شر لا مفر منه وما على المؤمنين إلا الحذر منهم بما أرشدنا الله إليه من وعظهم في أنفسهم والغلظة عليهم عند معرفتهم، ومع هذا يجب على المسلمين أن يعاملوا بعضهم بما ظهر منهم من إسلام ولم نؤمر أن نشق قلوب الناس لنعرف أمنافقين هم أم لا، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكر علامات تدل عليهم إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بأن من ظهرت فيه هذه العلامات كان منافقاً حقيقياً لأن بعضها قد يقع من المسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: [آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان] (البخاري ومسلم والترمذي).
وقال: [أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان وإذا خاصم فجر] (أخرجه البخاري والنسائي وأحمد).
ولما كانت هذه الأمور قد تظهر في بعض المسلمين لجهلهم فإن كل مسلم مطلوب منه الحذر على نفسه من النفاق وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه من النفاق وكذلك قال عمر بن الخطاب لحذيفة -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبره بالمنافقين- أما سماني رسول الله من المنافقين؟ فقال: لا، ولن أقول لأحد غيرك.
وهكذا يجب على كل واحد منا ألا يخلف وعداً أو يكذب على مسلم أن يخون أمانة أو يفجر في خصومة أخيه المسلم فتكون فيه شعبة من شعب النفاق أو يجمعها جميعاً فيطمس الله على قلبه فيزيغه عن الإيمان.
{اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا برحمتك يا أرحم الراحمين ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.
(2) الخوارج المارقون:
الصنف الثاني من أصناف الناس الخارجين على أصل "الولاء" هم الخوارج المارقون واسم الخوارج يطلق على كل من استحل دماء المسلمين أو أعراضهم أو أموالهم بالمعصية، وخرج على جماعتهم بالسيف، وأصل بلائهم من الجهل بأحكام الإسلام والاندفاع فيما يرونه منكراً إلى حدود العدوان على المسلم وظلمه، وهم الذين أفتوا بوجوب الخروج على الإمام العام بالمعصية، وقتاله بالسيف إذا رأوا منه ما يخالف رأيهم، ورأوا أيضاً وجوب البراءة من المسلم وهجرانه بالمعصية، وعدم جواز موالاة أحد من المسلمين بذلك، وهم في الغالب أهل حماسة وشدة في أخذ الدين ولكن هذه الحماسة والشدة لما كانت في غير موضعها انقلبت عليهم مروقاً وخروجاً عن الدين بالكلية وقد وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجهم بأنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم (البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم) وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود)، وأن المسلم الصالح يحقر صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم (البخاري ومسلم وابن ماجه وأحمد) وذلك من كثرة تعبدهم وزهادتهم، وقد ظهرت أول أفكار الخوارج وأقوالهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك عندما كان يوزع غنائم هوازن فأعطى مسلمة الفتح مائة من الإبل لكل واحد منهم ولم يعط المهاجرين الأولين والأنصار شيئاً فرأى ذلك رجل جاهل متشدد مارق فظن أن الرسول إنما حابي أهله وعشيرته بالغنائم وظن أن هذه مداهنة لقريش فقال للرسول: اعدل يا محمد، فوالله هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، هذا الجاهل الجلف المارق يقول للرسول: اعدل، ولو علم أن الله اختار رسوله لرسالته وأن الله لا يضع الرسالة إلا في موضعها لما ظن بالرسول سوءاً ثم اتهم نية الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يظهر خلاف ما يبطن وأن يفعل شيئاً لا يريد به وجه الله ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ يأمنني الله على خبر السماء ولا تأمنوني؟] فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال: [دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه] ثم قال: [يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد] وقال أيضاً: [إذا أدركتموهم فاقتلوهم فإن لمن قتلهم أجراً كبيراً] (رواه البخاري).
على منوال هذا الضال المارق خرجت الفتنة على عثمان رضي الله عنه، تعيب عليه أشياء من الصغائر وهو من هو رضي الله عنه سابقةً وفضلاً وإنفاقاً في سبيل الله وسبقاً إلى الإسلام وجهاداً مع رسوله أنكروا عليه أنه لم يول فلانا وولى فلانا، أو أنه ضرب فلانا أو نفى فلانا ومعلوم أن هذا كله في صلاحية الإمام العام، ولكنهم أخذوا هذه الصغائر وطيروها في كل مكان وأغروا الغوغاء والسفهاء من أهل مصر والشام والعراق والذين لا علم لهم بحقيقة الخليفة ومنزلة ذي النورين رضى الله عنه وأرضاه، وبذلك أججوا الفتنة عليه واستحلوا في النهاية دمه، ووقع بذلك على المسلمين اعظم بلاء في تاريخ الخلافة الراشدة، وهؤلاء المتنطعون الجاهلون أنفسهم هم الذين أرغموا علياً على البيعة ثم انتقضوا عليه لأمور جهلوها من الدين وظنوها مخالفة للقرآن فقد أنكروا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه تحريم نساء من حاربوهم في موقعة الجمل، وتحريم استرقاق ذراريهم وأخذ أموالهم حتى قال لهم: كيف أحل لكم نساءهم وهم مسلمون؟ ولو أحللت لكم نساءهم فأيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ وكذلك أنكروا عليه رفضه لإيقاف القتال عندما رفع جيش معاوية المصاحف على أسنة الرماح حتى قال له زيد بن خالد الطائي وهو أحد رؤوس الخوارج: "القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف؟" فقال له علي بن أبي طالب: أنا أعلم بما في كتاب الله.. ولكن هذا الجلف الجاهل رد على أمير المؤمنين رضي الله عنه بقوله "لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين وإلا فعلنا بك مثل ما فعلنا بعثمان" فاضطر علي رضي الله عنه إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع وولوا مدبرين وما بقي إلا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة" (انظر البداية والنهاية 7/273).
وبالرغم من أن الخوارج هم الذين حملوا علياً على قبول التحكيم، والتحاكم إلى القرآن فإنهم عادوا وأنكروا عليه وقالوا له: كيف تحكم الرجال في القرآن؟ لا حكم إلا الله.. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل. ثم أتى بالقرآن أمامهم وقال: يا قرآن احكم بيننا (انظر البداية والنهاية 7/276) أي ليس للقرآن لسان حتى يحكم وإنما يحكم الرجال بما عرفوا من كلام الله سبحانه وتعالى. وفي النهاية فارقوه وشقوا جيشه، واستحلوا دم عبدالله بن عبدالله بن حرام عندما حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ستكون فتنة النائم فيها خير من القاعد فيها، والقاعد فيها خير من القائم فيها والقائم فيها خير من الساعي فيها] (البخاري ومسلم والترمذي وأحمد). ولذلك قاتلهم علي وانتصر عليهم، ولم ينج منهم إلا تسعة أشخاص فقط وكانوا اثني عشر ألفاً انحاز منهم أربعة آلاف إليه وقاتل الباقي. ولكن هؤلاء الذين نجوا ذهبوا وألبوا عليه وعلى معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم واستحلوا دماءهم جميعا وتمكن مارقهم الأكبر عبد الرحمن بن ملجم من قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو خارج إلى صلاة الفجر في آخر جمعة من شهر رمضان وكان علي في ذلك الوقت خير من يدب على الأرض وإمام المسلمين، فانظر إلى بشاعة هذه الجريمة وانظر إلى ظن قاتله أنه كان يفعل خيرا ويريد رضوان الله ومرضاته كما قال عمران بن حطا شاعر الخوارج في وقته:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
ولكن صدق ابن المبارك الذي رد عليه فقال :
بل ضربة من شقي أوردته لظى وسوف يلقى بها الله غضباناً
وفي الوقت الذي التأمت في الأمة مرة ثانية على معاوية رضي الله عنه قامت قيامة الخوارج وظلوا يشاغلون أمراء الدولة الإسلامية الأموية ويؤججون النار في جنباتها ويصرفونها عن فتح الأمصار، وكثيرا ما كانت جيوش المسلمين تتحول من بلاد الشرك لإخماد فتنتهم التي كانوا يشعلونها كلما سنحت لهم الظروف واستمر حالهم هذا طيلة الدولة العباسية أيضا فكانوا بذلك أعظم شر وبلاء مني به المسلمون. والأفكار الخارجية لم تمت إلى يومنا هذا بل يتناقلها الجهال من الخوارج المعاصرون ممن يقرءون القرآن ولا يفقهون آياته، ويحفظون الحديث لا يدرون معانيه، وما زال المسلمون إلى يومنا هذا يطلع عليهم بين الحين والآخر من يزعم نصر الدين وقول كلمة الحق فيترك أهل الأوثان والشرك و الإباحية والكفر ويعمل قلمه ولسانه في المسلمين بل وجدنا منهم من لا هم إلا مشاغله الدعاة إلى الله والتعرض لهم بالسب والتشهير وتأليف الرسائل في بيان مثالبهم في زعمهم واتهامهم بالمداهنة تارة، والركون إلى الظالمين تارة، وفعل بعض المعاصي تارة، والإفتاء بما يخالف آراءهم تارة ولمثل هذه الأمور التي يرونها مخالفات وما هي بمخالفات يستحلون أعراضهم وينتهكون حرماتهم ويفتشون على أسرارهم ولا يجدون لهم ديناً في الأرض إلا تفريق جماعاتهم وتمزيق وحدتهم وملء صدور الناس بكراهيتهم ومحاولة فض الناس عنهم. وهذا من أكبر الآثام ومن أكبر النواقض لأصل الإيمان الأصيل وهو أصل الولاء، ولو فقه هؤلاء الدين لوجب عليهم محبة إخوانهم في الإسلام والدعاء لهم بظهر الغيب، وشد أزرهم والنصح لهم، وبذل الأمر بالمعروف لهم بالتي هي احسن ولكن الحقد والبغضاء ملأت صدورهم، ونفخ الشيطان في قلوبهم فتراهم يرون أكبر المنكرات فلا يأبهون ويشاهدون أعظم الطواغيت فلا يغضبون ولكنهم يرون الهفوات والصغائر على إخوان العقيدة والدين، و أهل الدعوة والجهاد فتحمر أنوفهم وتزبد أفواههم ويعددون في كل مجلس مخالفتهم.
وأمثال هؤلاء الذين ساروا على درب أسلافهم في المروق من قبل حيث تركوا أهل الأوثان، ونصبوا العداء لأهل الإسلام هم اخطر على المجتمع الإسلامي من المنافق المستتر لأن هؤلاء يظنون أنهم على الحق وانهم يحسنون صنعا، ويتكلمون بالآية والحديث وهم أعظم ستار لأهل النفاق والشر الذين يريدون هدم الإسلام، فالمنافقون يستترون بأمثال هؤلاء الأغرار الذين لا يفقهون حكمة ولا دعوة ويقرأون القرآن دون فهم وتدبر يأخذون منه ما شاءوا دون إن يكون لهم سلف في الترك وإنما بما تمليه عليهم أهواؤهم المريضة، وعصبيتهم البغيضة. وهؤلاء تجدهم يميلون إلى الشدة في كل شيء فالمستحب عندهم واجب، والمباح عندهم إثم ومعصية والرخصة جريمة وتهاون، واللين مداهنة والسكوت عن بعض الحق اتقاء الفتنة عندهم نفاق. وهكذا جعلوا دين الله بلاء على الناس وشرا بل جعلوا دين الله لا يصلح إلا لمن ترك الحياة كلها والمجتمع كله وخرج إلى البراري والقفار يرعى غنيمات وأما الاختلاط بالناس ففتنة عندهم والعمل في الحكومات كفر ومعصية، والتعلم في المدارس جريمة واستعمال النقود إثم لان عليها صورة. والسفر إلى بلاد الكفار جريمة عندهم ما بعدها جريمة. وويل لك ثم ويل إن حملت جواز سفر أو رخصة قيادة لأن ذلك إثم ومعصية إذ كيف تحمل صنما في جيبك؟ والتلفزيون رجس من عمل الشيطان لأن فيه أصنام.